المصدر / عبدالمنعم سعيد
إذا كان العبقرى محمد منير قد غنى عن الأمانى والأغانى الممكنة، فإن «الثورة» الممكنة ربما تكون فى مكانها هذه الأيام، ولكنها ربما تكون بشكل مختلف عما هو شائع. فما هو شائع الآن فى الكتابات الغربية التى ازدهرت فجأة خلال الأسبوع الماضى بمناسبة مرور خمس سنوات على «الربيع العربى»، هو أن ما جرى فى مصر لم يكن أبدا بثورة وإنما يمكن أن يسمى فورة أو هبة أو انتفاضة. فالثورات لا تأتى فقط لكى تطيح بنظام أو حاكم، وإنما لإقامة عالم جديد لم تشهده الدنيا ولا الشعب الثائر من قبل. المليونيات وحدها ليست كافية للتدليل على حدوث ثورة، ربما تكون بعضا من مقدماتها، ولكنها بدون مشروع للتغيير فإنها لا تصير كذلك وإنما حدث مهم وكفى. ما أتى بعد الحدث لم يدل على مشروع، ولا خطة، أو هكذا رأى مايكل وحيد حنا من مؤسسة «سينشرى» عندما كتب عن مصر بعد خمس سنوات من الانتفاضة. ولكن دافيد ومارينا أوتاوى فى مجلة الشؤون الخارجية، فقد كان رأيهما أنه صحيح أن الثورة لم تحدث فى مصر، ولكن ما يجرى فى مصر هو نوع من الربيع العربى الدائم الذى سوف يقود إلى ثورة، وكما كتب آخرون، إذا لم يكن هذا العام فربما العام القادم.
ليست هذه هى الثورة التى نتحدث عنها لأن من تحدثوا عنها يعتمدون على معلومات استقوها من مقاهى الزمالك والمهندسين حيث لاتزال آثار ثوار يناير شائعة. وللأسف الشديد فإن هؤلاء على نقائهم وبراءتهم الشديدة، باتوا يشكلون نوعا من «الفلول» الجدد الذين يختلفون عن فلول مبارك أو الإخوان أو حتى الفلول الناصرية التى أصبحت لديها نوع من النوستالجيا التاريخية عن عصور ذهبية ولت وراحت، بينما الواقع ليس فيه أكثر من قبض الريح. ما يجمع فلول يناير مع من سبقوهم من فلول، هو البكاء على الأطلال، والشعور بالإهانة البالغة، والمبالغة الفائقة عمن يتحدث عنهم بسوء سواء من حيث ضلوعهم فى مؤامرة ما، أو أنهم حصلوا على أموال من جهة أو أخرى. الفارق بينهم وبين الآخرين أن فترة تواجدهم فى التأثير السياسى كانت كالشهاب الذى أتى مثل الحلم وذهب بسرعة وأتى من بعده كابوس مفزع. الاكتئاب والحزن وتوجيه الاتهامات شمالا ويمينا، مع بعض من الشعور باللذة عند التأكيد تلو التأكيد أن العصر الحالى أكثر سوءا من عصر مبارك، ثم بعد ذلك يبدأ تعداد مخالفات حقوق الإنسان بنفس الأعداد والقصص التى ترددها «هيومان رايتس ووتش» أو «العفو الدولية، أو مارك لينش، وستيفن كوك، وناثان براون. كانت فترة المجد فى الفضائيات التليفزيونية قصيرة للغاية، وللأسف لم يتم استغلالها إلا فى إدانة فلول قديمة، قبل أن يبدأ التحقيق، وقبل أن تحكم المحكمة، ولكن لا شىء عن المستقبل.
ومع ذلك لاتزال الأغانى والأمانى ممكنة، إذا ما أخذنا من التاريخ ما يجعلنا أكثر حكمة فى التعامل مع اللحظة القائمة التى ربما على الجميع التعلم منها. فعندما قامت ثورة يوليو ١٩٥٢ فإن أحدا لم يسمها ثورة، كان الاسم الشائع هو حركة الجيش المباركة. احتاج الأمر عدة سنوات حتى كان تأميم قناة السويس، ثم جرت عمليات التمصير، من بعدها التأميم، وغنى عبدالحليم حافظ عن الصناعة والسد العالى، وأصبح للعمال والفلاحين نسبة إجبارية من كل المجالس المنتخبة، وأصبح التعليم والصحة من الخدمات المجانية. كان هناك ما هو أكثر، ولكن أيا كانت النتائج إلى الأفضل أو الأسوأ أو خليط بينهما، فإن الحقيقة الأساسية هى أن مصر تغيرت فى قيمها، وفى طبقاتها الاجتماعية، وفى نظام حكمها، وفى دورها الإقليمى. كان ذلك ثورة بكل المعايير فى الثورات، وهى الإطاحة بالنظام القديم، ووضع آخر مكانه مختلف جذريا عما كان. كان هذا ما حدث، وظل حاكما لنا مع تغييرات ورتوش هنا وهناك، كان تحرير سيناء بحرب أكتوبر شهادة على قدرة التصحيح، وتحرير طابا ومعها إصلاحات اقتصادية ملموسة رسالة إلى أن فى النظام بعضا من الحيوية.
سوف نختلف بالطبع على ما جرى على مدى ستة عقود، وبالنسبة لى فقد كان الرأى دوما أننا كنا إزاء إخفاق تاريخى آخر، ومعيارى هو موقعنا بين الأمم وفى مراتب التقدم. تحسنت أمور كثيرة، وتقدمنا أحيانا، وتراجعنا فى أوقات أخرى، ولكن فى النهاية كنا دائما نتراجع عن العصر وأقول أيضا الحضارة الإنسانية. لابد أن لآخرين آراء أخرى محترمة، ولكن هنا تحديدا يمكن لثوار يناير ليس تصحيح الثورة لأن ذلك حدث فى يونيو ٢٠١٣، ولكن لاستكمالها من خلال مشروع حقيقى للتغيير يجعل الثورة ليست تدمير ما سبق، أو سحق فلول سابقين، وإنما الدخول إلى ساحة جعل مصر متسامحة مع عصرها ودنياها، وما لا يقل أهمية أن تصعد بسرعة على سلم التقدم. ما قدمته ثورة- أو هبةـ يناير لمصر هى أنها أولا أتت بالشباب إلى ساحة العمل السياسى، ورغم أن ذلك كان أساسا فى ساحة العمل الجماهيرى والمظاهرات والاعتصامات والإضرابات، فإن بناء الأمم لا يكون بينما الأمة فى حالة شلل فى مواصلاتها واتصالاتها وحواضرها وفى طرق الصناعة، باختصار فى حالة الفوضى. وربما كان ذلك ضروريا ساعتها لإسقاط النظام، ولكن بناء النظام الجديد يحتاج حماسا وطاقة لأغراض تفيد التغيير والتقدم. وثانيا أن الشباب الذى أتى لم يكن مثل كل شباب مصر، وإنما كان أساسا من الطبقة الوسطى التى بطبيعتها قلقة ومتحفزة، ولديها من الثروة ما يكفى لكى لا تخضع، ولكن ما يكفى أيضا لكى لا تكف عن الحلم. هذه الطبقة الوسطى اتسعت خلال عقود ما بعد الانفتاح الاقتصادى فى النصف الثانى من السبعينيات فى القرن الماضى، وترعرعت مع الإصلاح الاقتصادى فى التسعينيات والعقد الأول من القرن الحالى. وثالثا أن الشباب جاء إلى الثورة بسلاحَى العولمة، والتكنولوجيا، وكلاهما فيه من القوة ما يحل مشاكل مصرية مزمنة. ورابعا أن الشباب بالفعل لديه تجربة كبيرة فى البناء. فمن بين كل المشروعات الصغيرة والمتوسطة فإن يد الشباب موجودة، وبعضهم الذى ذهب إلى الخارج أحرز مكانة محترمة فى كبريات الشركات متعددة الجنسية، وباختصار فإن لديهم طاقة فواحة بعطر العصر الحديث.
ما يحتاجه شباب الثورة ليس البكاء على الأطلال ولعن الزمن الذى عاد وكأن لا شىء جرى فى مصر، وإنما المشاركة فى مشروع كبير. هذا المشروع لابد له من مراجعة ما حدث، ليس للإدانة أو تسجيل النقاط فذلك بات متروكا للتاريخ، وإنما لإدراك أمور ضرورية لإصلاح البلاد يقع فيها معرفة القيمة الوطنية للجيش الوطنى المصرى، والعلاقة بينه وبين الشعب، مع المعرفة الدقيقة بالأخطار التى تتعرض لها البلاد. لا يوجد هناك شك أن لدينا معضلات كبرى تتعلق بحقوق الإنسان، ولكن الحركة من أجلها لا يكون بالتشهير الدولى والاستعداء العالمى وأحيانا التشويه المتعمد للحقائق. وبقدر ما الأمانى والأغانى ممكنة فإن السياسة أيضا ممكنة ومتاحة بأكثر مما هو شائع لدى الشباب، فقد تغيرت مصر بقدر ما تغير المصريون، وهؤلاء لم يعد لديهم استعداد للقبول بما يشبه نظام مبارك مرة أخرى، بقدر ما أنهم ليسوا على استعداد للقبول بالعيش فى الحالة «الثورية» الفوضوية التى لا تبنى ولا تغير وإنما تقسم وتأخذنا إلى أبواب الجحيم. فى دول أخرى مرت بما مررنا فيه جرت حوارات واسعة بين من هم يمثلون ثوار يناير لدينا، ومن يمثلون ثوار يونيو عندنا، لا يكون فيها لا التعالى الأخلاقى للأولين، ولا تعالى القوة للآخرين. فإذا كنا نريد فعلا بناء الوطن، وتغييره ودفعه نحو القرن الواحد والعشرين، فإنه لا ينبغى ـ كما قال عبدالناصر ذات مرة ـ أن يحدث تناقض بين الثورة وشباب الثورة. ولكن هذه المرة لابد أن نكون من الصادقين!